د. عماد عبد اللطيف سالم يكتب : الجنود القراء في باصات الحرب

في ذلك الزمان “القديم” ، كان هناك صنفان من الجنود “القُرّاء” ، المُتكوّرينَ على المقاعد الرثّة في باصات الحرب. الصنف الأوّل هو صنف القرّاء الذين تراهم معزولينَ “مُتوَحِّدين” وهم يجلسونَ بوجومٍ وتوتّرٍ واضح في الباصات والقطارات..القرّاءُ المنتمين إلى تلك “الأقليّة الهائلة” من الجنود “المُثقفّين”(غير العضويّين) بسحناتهم المتجهّمة(التي كان فيها دائماً ما يُرعب الفتيات)، ووجوههم الأكثر وعورةً من الأسلاك الشائكة، والأكثر خطورةً من ألغام VS 50 المضادة للأشخاص(وهي الألغام الشبيهة بقرص “الهمبورجر” الذي كان يبيعهُ “أبو يونان” في أيّام البهجة)، والتي كانت تدخل الى “موقعك” دون استئذان في الأيّام المطيرة، وتنفجرُ تحت قدميك المغموسة بالطينِ والسَبخِ والسَخام.

د. عماد عبد اللطيف سالم


هذا الصنف من الجنود القرّاء ، حتّى السيدة “سيمون دو بوفوار” لن تتمكّن من فكّ شفرة التواصل معهم ، مهما بعدت المسافةُ وطالَ السفر.. وأحدهم قطع المسافة بين “كَراج النهضة” في بغداد ، و “كَراج ساحة سعد” في البصرة .. وعلى امتداد 600 كم كان هذا “المخلوق” المهدّد بالإنقراض يقرأ كتاباً لـ “هوسرل” عن “الظاهراتيّة” ، بينما كانت المرأةُ التي تشاركهُ ذات المقعد تختلِسُ النظر اليه وإلى كتابه طيلة 6 ساعات ، دون أن تتمكّنَ من فهم شيءٍ منه ، أومن “الفينومينولوجيا” التي كان غارقاً فيها حتّى أذنيه.
الصنف الثاني من الجنود “القرّاء”، هم أولئك الذين كانوا يشترون(أثناء اجازاتهم الدورية) تلك المجلات الخاصة بالموضة والفن( الحسناء ، الموعد ، الشبكة، شهرزاد ، سيدتي ، حوّاء ، الرشاقة ، الشرقية..).
كانت تلك المجلات باهظة الكلفة بالنسبة لجنديّ .. ولكن لا بأس ، فالهدف أغلى وأجمل بكثير من كلفة شراء مجلّةٍ ستقضمُ أكثر من نصف الراتب(أو الدعم العائليّ) الضئيل أصلاً.
في باصات “المرسيدس” و “الكوستر” و “الريم”(لجميع الحروب) ، وفي قطارات الحرب العراقية الإيرانية (حصراً)، كان الجندي”القاريْ” يسعى جاهداً للجلوس قرب امرأةٍ أو فتاةٍ ما ، ليشعرَ بشيءٍ من الألفة، أو ليخترعَ صلةً مستحيلةً مع “الأنثى” التي تجلس إلى جواره.
وفي طريقه الطويل الى “وحدته” العسكرية(في أقصى شمال العراق ، أو في أبعد نقطةٍ في جنوبه وشرقه)، سيحاولُ هذا الجندي(من خلال استخدام تكتيكات “حركيّة” خاصّة بالجنود) تصفّحَ واستعراض تلك المجلات، مائلاً بها وبجسده نحو الجسد “الآخر” الذي يجلس على مقربةٍ منه.
أحياناً(وليس دائما) ، تحاولُ جارة المقعد “الترحاليّ” اختلاس النظر الى مجلة الجندي المجاور.
في أحيانٍ نادرةٍ قد تشاركهُ التصفّح والقراءة.
وفي لحظةٍ سحريّةٍ – عجائبيّةٍ (لا تحدثُ إلاّ في قصص الجنيّات) قد تستعير من “جارها” مجلّته، أو تتبادلُ معه الحديث بصدد ما رأته فيها.
يستجيبُ الجنديُّ “الحالِمُ” لهذه الإحتمالات الثلاثة ، وينغمسُ فيها بحواسّه”السِت)، ويبدو مُستعِدّاً لها ، أكثر من استعدادهِ للخوض في الحروب التي لا تعنيه، والتي يمضي صاغراً اليها.
في أكثر الأحيان ، لا يتحقّقُ أيُّ “هدف” من أهداف شراء المجلّة .. يبقى الجنديّ “يُوَرِّقُ” الصفحاتَ ساهم العينينِ، كسيرَ القلب ، بينما “الجارةُ” لا تلتفت، ولا تعرفُ حتّى جنسَ المخلوق الذي”يلوبُ”على بعد شبرٍ منها. أحياناً ينجحُ الجنديّ في استدراج “جارته” إلى تبادل بعض الكلمات، أو إلى تبادل المجلاّت ، أو إلى الذوبانٍ تماماً في ألفةٍ عابرة .. وأحياناً يمنح هؤلاء الجنود مجلاّتهم لـنساءٍ غريباتٍ دون مقابل.
بعضٌ من تلك المجلاّت ما تزالُ إلى الآن لدى تلك المرأة التي سبق لها ذات يوم وإن جلست قرب جنديٍّ ذهب إلى الحرب ، ولم يعد أبداً منها ، إلى حضن أُمّه.
بناتُ تلك السيدة(وحفيداتها ربّما) ، وأبناء اولئكَ الجنود(وأحفادهم ربّما)، يتواصلون الآن عبر وسائط وتطبيقات الأنترنت في الهواتف النقّالة، ويتبادلونَ كُلَّ شيء، كُلّ شيء ، دون الحاجة إلى “باصات الدردشة” المستحيلة،عبر مجلاّت الوسامة “العتيقة” وأزياءها البائدة .. و حيث جحود “الجيرة” في مقاعد الريم والكوستر والنيسان ، وبقايا الشغف العصيّ على اللمس ، في قطارات الحرب الصاعدة للموصل ، والنازلة للبصرة.
بإمكانِ أيُّ رجلٍ (أو فتى) أن يتواصل اليوم مع أيّ امرأةٍ(أو فتاةٍ) في العالم ، وهو جالسٌ في حضن زوجته.. أو في حضن أُمّه.
ما من داعٍ إلى الحرب ، ولا إلى الذهاب إلى كَراج “النهضة” أو كَراج أربيل أو كَراج “ساحة سعد” ، ولا إلى شراء الكتب العصيّةِ على الفهم ، أو المجلاّت الباذخة.
بوسعك الآن أن تفعل كُلّ شيء ، كُلّ شيء ، وأن “تنتصر” في نهاية المطاف(أو تُهزَمَ نسبيّاً) ، من خلال النقر على حروف “الكيبورد” .. دون الحاجة إلى أن تكونَ جنديّاً ، ودون أن تشاركَ في ثلاثة حروبٍ(على الأقلّ) ، يكفي أمّكَ حُزناً ، ويكفيكَ خُذلانًاً ، أن تموتَ في واحدةٍ منها.

Related posts